د. ليلى إبراهيم شلبي:
لم يعرف الإنسان منذ بدء الحياة وبداية الخلق مسكنا أكثر أمانا من الرحم.
يلجأ إليه نطفة لم تدب فيها الروح بعد. ثم علقة تنغرس فى دفء جدرانه تنقسم خلاياها وتتكاثر لتنمو وتنمو فى نسق محكم بديع.
تتخصص الخلايا كل منها لما خلق له. منها ما سيشكل الملامح ومنها ما سيحدد الصفات. منها ما يتهيأ لمكان الصدارة والريادة ومنها ما يستعد للأدوار الصغيرة والوظائف الدقيقة التى لا تكتمل الصورة إلا بها.
الكل يتهيأ للحظة أن تدب الروح فى تمثال الجسد. ويتحرك الجنين فى ظلمة الرحم الذى يعرف قدره لدى أمه فيتكفل بكل مسئولياته على حسابها. يمده بالطعام والمناعة والقدرة على التنفس والنمو إلى حد اكتماله ويرعاه حتى لحظة ولادته وخروجه إلى النور فينقبض ليقذفه بلطف وحنو بالغ.
فماذا يحدث لو أصابت الرحم لوثة فقرر أن يلفظ الجنين قبل موعد اكتماله؟
الإجهاض هو أن يلفظ الرحم الجنين قبل اكتماله فى أى لحظة تسبق لحظة الميلاد التى تحدث عادة بين الأسبوع السادس والثلاثين إلى الأربعين من الحمل.
قد يحدث الإجهاض جراحيا لرغبة فى التخلص من الجنين أو نتيجة التعرض لحادث ما لكن الإجهاض المتكرر أو التلقائى هو ما يحدث نتيجة أن ينقبض الرحم دون أى تدخل خارجى ليلفظ الجنين قبل اكتماله وقبل انقضاء عشرين أسبوعا على بداية الحمل وأن يتكرر لثلاث مرات على الأقل مع كل حمل جديد.
قد يحدث الإجهاض التلقائى فى بدايات مبكرة للحمل وبعد توقف الدورة الشهرية مباشرة حتى يختلط الأمر على المرأة فلا تعرف إن كان هذا إجهاضا أم يوما مكملا لدورتها الشهرية.
أسباب الإجهاض التلقائى
ـ تشكل العوامل الوراثية جانبا مهما من أسباب حدوث الإجهاض التلقائى. فالمعروف من دراسات علمية سابقة تعتمد على دراسة أنسجة الجنين الذى لفظه الرحم قبل موعده أن هناك خللا جينيا جعل من الجنين كيانا غير قابل للاكتمال. هذا الخلل فى الكروموسومات يمكن أن يأتى من الأم أو الأب أو هما معا. لذا فدراسة البصمة الوراثية للأم والأب معا والخريطة الكروموسومية لهما قد تكون الحل وحجر الزاوية فى معرفة نوع الخلل وعلاجه متى كان ذلك ممكنا.
ـ السبب الآخر المعروف هو العيوب الخلقية التشريحية فى الرحم ذاته مثل وجود حاجز من الأنسجة داخل تجويف الرحم نفسه يقسمه إلى جزءين مما لا يفسح للجنين مساحة كافية لنمو طبيعى واكتمال فيسقط. أيضا وجود الأورام الليفية التى تحتل مكانا يختلف وفقا لحجم الورم ووضعه والالتصاقات التى تحول دون استقرار الحمل.
هناك أيضا احتمالات توسع عنق الرحم إما لأسباب خلقية أو نتيجة لتكرار ولادات متعسرة فيعمد الطبيب إلى ربط عنق الرحم حتى موعد الولادة.
ـ قد تتدخل المناعة أيضا فى أسباب الإجهاض المتكرر. إصابة المرأة بأحد أمراض خلل المناعة الذاتية كالذئبة الحمراء يؤدى إلى أن يهاجم الجهاز المناعى ذلك الجسم الغريب «الجنين» فيطلق عليه خلاياه لتدمره. وقد ينتج عن ذلك أيضا خلل فى آلية تجلط الدم مما يتسبب فى حدوث جلطات متكررة خاصة فى المشيمة.
ـ العدوى بأمراض تسببها فيروسات أو بكتيريا أو فطريات وطفيليات منها على سبيل المثال الإصابة بالحصبة الألمانية والتوكسوبلازما التى تنقلها الحيوانات الأليفة «القطط» والعدوى المتكررة بفيروس الهربس. العدوى بميكروبات بكتيرية تصيب المهبل من أكثر الإصابات حدوثا وقد تتسبب فى ولادة مبكرة طبيعية إذا اكتمل الجنين.
ـ أى نقص أو خلل مفاجئ فى نسبة الهورمونات المتعلقة بالحمل واستقراره قد تسبب إجهاضا متكررا إذا لم ننتبه إليه.
ـ تكيس المبايض أحد الأسباب الشائعة للإجهاض إذ ينتج المبيض المصاب بويضة مشوهة ينجم عنها حمل مشوه وجنين لا يكتمل. قد يحدث تكيس المبايض دون تأثير خارجى لكنه أيضا يحدث نتيجة اختلال عمل الغدد الدرقية والنخامية.
ـ قد يحدث الإجهاض التلقائى أيضا نتيجة لتلوث البيئة المحيطة بالسيدة الحامل. التدخين والكحوليات والتسمم ببعض المركبات الكيماوية.
ـ احتمالات الإجهاض التلقائى واردة أيضا عند الإصابة بأمراض مزمنة تنهك قدرة الجسم وتستنفدها كالسرطان. كذلك أثناء تناول العلاجات الكيماوية والأدوية المثبطة للمناعة.
ـ الحمل الحويصلى رغم ندرة حدوثه فى بلادنا وانتشاره فى جنوب شرق آسيا إلا أنه يمثل خطورة على الحامل سواء تكرار حدوث الإجهاض أو التحول إلى ورم سرطانى سريع الانتشار.
ـ قد يتكرر الإجهاض التلقائى بلا أى أسباب معروفة رغم إجراء كل الأبحاث وتعدد وسائل التشخيص المتاحة.
< تتعدد أسباب الإجهاض التلقائى وتختلف بصورة محيرة قد يعجز الطبيب أحيانا عن ملاحقتها إلا إذا أعلن السبب عن نفسه رغم أنه يحتفظ لنفسه فى حالات كثيرة بحق أن يظل مجهولا فيزيد الأمر حيرة.
لذا يجب أن تتنبه الحامل لكل تفاصيل حملها وكل الظروف التى يمكن أن تؤدى لتكرار إجهاضها.
ـ من تاريخ المرأة الحامل يمكن قراءة إذا ما تعرضت لملوثات أو مواد كيماوية كان لها أثر على حملها مثل التدخين والكحوليات وغاز التخدير أو الفورمالين والرصاص والزرنيخ. تعرضها أيضا للأشعة أو تناولها أدوية لها ذلك الأثر على الجنين. الصدمات النفسية والتوتر المرضى عوامل أيضا حاضرة بقوة بين الأسباب التى تؤدى للإجهاض.
ـ دراسة الشأن الوراثى أول ما يلجأ إليه الطبيب لمعرفة إذا ما كانت كروموسومات الأب والأم مسئولة عن تكرار الإجهاض.
أيضا دراسة وفحص الجنين المجهض تفيد فى استنتاج ومعرفة سبب عدم اكتماله.
ـ فحص الرحم بكل الوسائل المتاحة: الأشعة الملونة بالصبغة، الموجهات فوق الصوتية والمنظار الرحمى. كلها تعطى صورة واضحة ومتكاملة عن وجود أى عيوب خلقية أو تشريحية فى الرحم وتدل عن إمكانية إصلاحها جراحيا مما قد يأتى بنتائج باهرة ترضى رغبة المرأة الأولى فى الحياة: الأمومة.
ـ إجراء أبحاث الدم لقياس نسبة الهورمونات ورصد أى خلل مناعى أو عيب فى آلية سيولة وتجلط الدم يحقق تحكما سريعا فى المشكلة وحلها.
ـ عينات طبية من المهبل وعنق الرحم كافية للكشف عن وجود ميكروبات وجراثيم قد تكون السبب.
ـ الحالات التى يغيب عنها سبب واضح قد يجدى معها ـ وبصورة قد تدهش ـ الدعم النفسى للمرأة. حضور قوى للزوج إلى جوار زوجته واهتمام من العائلة ورعاية طبية واهتمام من حكيم متمرس كلها عوامل قد تقدم حلا سعيدا دون الحاجة لقائمة من الأبحاث والأدوية.
الإجهاض التلقائى المتكرر بلا شك أمر مخيب للآمال باعث على القلق.
يهدد المرأة فى أغلى مقدراتها لكنه أيضا قد يكون رحمة بها. تمام الحمل واكتماله فى جنين مشوه يعانى من خلل فى صفاته الوراثية يأتى للحياة بكيان غير قادر على مواجهتها، ويلقى بظل ثقيل على أسرة بأكملها.